سورة يوسف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَجَاءوا على قَمِيصِهِ} محلُّه النصبُ على الظرفية من قوله: {بِدَمٍ} أي جاءوا فوق قميصِه بدم كما تقول: جاء على جِماله بأحمال، أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحالُ ظرفاً {كَذِبٍ} مصدرٌ وصف به الدمُ مبالغةً، أو مصدرٌ بمعنى المفعول أي مكذوبٍ فيه أو بمعنى ذي كذب أي ملابِسٍ لكذب، وقرئ {كذباً} على أنه حالٌ من الضمير، أي جاءوا كاذبين أو مفعولٌ له، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها بغير المعجمة أي كدر، وقيل: طريّ، قال ابن جني: أصلُه من الكدب وهو الفُوف أي البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث كأنه دم قد أثر في قميصه. روي أنهم ذبحوا سَخْلةً ولطّخوه بدمها وزلّ عنهم أن يمزقوه، فلما سمع يعقوبُ بخبر يوسف عليهما السلام صاح بأعلى صوته وقال: أين القميصُ؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضَب وجهَه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلمَ من هذا، أكل ابني ولم يمزِّقْ عليه قميصه. وقيل: كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاثُ آياتٍ كان دليلاً ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف عليه السلام حين قُدّ مِنْ دُبر {قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤال فكأنه قيل: ما قال يعقوبُ هل صدقهم فيما قالوا أو لا؟ فقيل: لم يكن ذلك {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} أي زينت وسهّلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما والتسويلُ تقديرُ شيءٍ في النفس مع الطمع في إتمامه. قال الأزهري: كأنّ التسويلَ تفعيلٌ من سُؤل الإنسان وهو أمنيتُه التي يطلبها فتزين لطالبها الباطلَ وغيرَه، وأصله مهموز، وقيل: من السَّوَل وهو الاسترخاء {أمْراً} من الأمور منْكراً لا يوصف ولا يعرف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبرٌ جميلٌ أو فصبرٌ أجملُ أو أمثلُ. وفي الحديث: «الصبرُ الجميلُ الذي لا شكوى فيه» أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوبُ عليه السلام: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وقيل: سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ قال: طولُ الزمان وكثرةُ الأحزان فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوبُ أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئةٌ فاغفِرها لي، وقرأ أُبيّ {فصبراً جميلاً} {والله المستعان} أي المطلوبُ منه العونُ وهو إنشاءٌ منه عليه السلام للاستعانة المستمرة {على مَا تَصِفُونَ} على إظهار حال ما تصفون وبيانِ كونِه كذباً، وإظهارِ سلامتِه فإنه عَلَم في الكذب قال سبحانه: {سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} وهو الأليقُ بما سيجيء من قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} وتفسيرُ المستعانِ عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسفَ والصبرِ على الرزء فيه يأباه تكذيبُه عليه السلام لهم في ذلك، ولا تساعدُه الصيغةُ فإنها قد غلَبت في وصف الشيء بما ليس فيه كما أشير إليه.
{وَجَاءتْ} شروعٌ في بيان ما جرى على يوسف في الجب بعد الفراغِ من ذكر ما وقع بين إخوتِه وبين أبيه، والتعبيرُ بالمجيء ليس بالنسبة إلى مكانهم فإن كنعانَ ليس بالجانب المصريِّ من مدينَ بل إلى مكان يوسف وفي إيثاره على المرور أو الإتيانِ أو نحوهما إيماءٌ إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليكٍ مقتدرٍ والظاهر أن الجب كان في الأمم المئتاء فإن المتبادر من إسناد المجيء إلى السيارة مطلقاً في قوله عز وجل: {سَيَّارَةٌ} أي رفقةٌ تسير من جهة مدينَ إلى مصرَ وقوعُه باعتبار سيرِهم المعتادِ وهو الذي يقتضيه قوله تعالى فيما سلف: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} وقد قيل إنه كان في قفرة بعيدةٍ من العُمران لم تُمكن إلا للرعاة فأخطأوا الطريقَ فنزلوا قريباً منه، وقيل: كان ماؤه مِلْحاً فعذُبَ حين ألقي فيه عليه السلام {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يرد الماءَ ويستقي لهم وكان ذلك مالك بنُ ذعر الخزاعيّ وإنما لم يُذكر منتهى الإرسالِ كما لم يذكر منتهى المجيءِ أعني الجب للإيذان بأن ذلك معهودٌ لا يُضرب عنه الذكرُ صفحاً {فأدلى دَلْوَهُ} أي أرسلها إلى الجب والحذفُ لما عرفتَه فتدلى بها يوسف فخرج.
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال يقتضيه الحال {يابشرى هذا غُلاَمٌ} كأنه نادى البُشرى وقال: تعالَيْ، فهذا أوانُك حيث فاز بنعمة باردةٍ وأيِّ نعمةٍ مكانَ ما يوجد مباحاً من الماء. وقيل: هو اسمُ صاحبٍ له ناداه ليُعينَه على إخراجه، وقرأ غيرُ الكوفيين {يا بشرايَ} وأمال فتحةَ الراءِ حمزةُ والكِسائيُّ وقرأ ورشٌ بين اللفظين {يا بُشْرَيَّ} بالإدغام وهي لغة، و{بشرايْ} على قصد الوقف {وَأَسَرُّوهُ} أي أخفاه الواردُ وأصحابُه عن بقية الرفقة، وقيل: أخفَوا أمرَه ووجدانَهم له في الجب وقالوا لهم: دفعَه إلينا أهلُ الماء لنبيعه لهم بمصرَ، وقيل: الضميرُ لإخوة يوسفَ وذلك أن يهوذا كان يأتيه كلَّ يوم بطعام فأتاه يومئذ فلم يجدْه فيها فأخبر إخوتَه فأتَوا الرفقةَ وقالوا: هذا غلامُنا أبَقَ منا فاشترَوه منهم وسكت يوسفُ مخافةَ أن يقتُلوه ولا يخفى ما فيه من البعد {بضاعة} نُصب على الحالية أي أخفَوه حالَ كونِه بضاعةً أي متاعاً للتجارة فإنها قطعةٌ من المال بُضعت عنه أي قطعت للتجارة {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وعيدٌ لهم على ما صنعوا من جعلهم مثلَ يوسفَ وهو هو عرضةً للابتذال بالبيع والشراءِ وما دبروا في ذلك من الحيل.


{وَشَرَوْهُ} أي باعوه والضمير للوارد وأصحابه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} زيْفٍ ناقصِ العيار {دراهم} بدل من ثمن أي لا دنانير {مَّعْدُودَةٍ} أي غيرِ موزونة فهو بيانٌ لقلته ونقصانِه مقداراً بعد بيان نقصانِه في نفسه إذ المعتادُ فيما لا يبلغ أربعين العدُّ دون الوزن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً وعن السدي رضي الله عنه أنها كانت اثنين وعشرين درهماً {وَكَانُواْ} أي البائعون {فِيهِ} في يوسف {مِنَ الزهدين} من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخْسِ، وسببُ ذلك أنهم التقطوه، والملتقطُ للشيء متهاونٌ به، أو غيرُ واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحِقٌّ فينتزعه منه فيبيعه من أول مُساومٍ بأوكسِ ثمن، ويجوز أن يكون معنى شرَوه اشتروه من إخوته على ما حُكي وهم غير راغبين في شِراه خشية ذهابِ مالِهم لِما ظنّ في آذانهم من الإباق، والعدولُ على صيغة الافتعال المنبئةِ عن الاتخاذ لما مر من أن أخذَهم إنما كان بطريق البضاعةِ دون الاجتباء والاقتناءِ، وفيه متعلِّق بالزاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ لما زهدوا فيه إن جُعلت موصولة، كأنه قيل: في أي شيء زهِدوا؟ فقيل: زهدوا فيه، لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول.


{وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزانته واسمُه قطفيرُ أو إطفير، وبيانُ كونِه من مصرَ لتربية ما يفرّع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس، وكان الملكَ يومئذ الريانُ بنُ الوليد العمليقي ومات في حياة يوسفَ عليه السلام بعد أن آمن به فملَك بعده قابوسُ بنُ مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى، وقيل: كان الملكُ في أيامه فرعونَ موسى عليه السلام عاش أربعَمائة سنةٍ لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} وقيل: فرعونُ موسى من أولاد فرعونِ يوسف، والآية من قبيل خطاب الأولادِ بأحوال الآباء، واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل: بعشرين ديناراً وزوجَيْ نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه في السوق يعرِضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنُه وزنَه مِسْكاً ووزنَه حريراً فاشتراه قطفيرُ بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبعَ عشرةَ سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاثَ عشرةَ سنةً واستوزره الريانُ وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة {لاِمْرَأَتِهِ} راعيل أو زليخا، وقيل: اسمُها هو الأول والثاني لقبُها واللامُ متعلقةٌ بقال لا باشتراه {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي محلَّ إقامتِه كريماً مرضياً والمعنى أحسني تعهّده {عسى أَن يَنفَعَنَا} في ضِياعنا وأموالِنا ونستظهر به في مصالحنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنّاه وكان ذلك لِما تفرّس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ولذلك قيل: أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ عزيزُ مصرَ وابنةُ شعيبِ التي قالت: {إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره} وأبو بكر حين استخلف عمرَ رضي الله عنهما.
{وكذلك} نُصب على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم من كلام العزيزِ، وما فيه من معنى البُعد لتفخيمه أي مثلَ ذلك التمكينِ البديع {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض} أي جعلنا له فيها مكاناً، يقال: مكّنه فيه أي أثبته فيه ومكّن له فيه، أي جعل له فيه مكاناً، ولتقاربهما وتلازُمهما يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر، قال عز وجل: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} أي ما لم نمكنْكم فيها أو مكنّا لهم في الأرض الخ، والمعنى كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيزِ أو مكاناً علياً في قبله حتى أمرَ امرأتَه دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانةً رفيعة في أرض مصر، ولعله عبارةٌ عن جعله وجيهاً بين أهلها ومحبباً في قلوبهم كافة كما في قلب العزيزِ لأنه الذي يؤدّي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي نوفقه لتعبير بعضِ المنامات التي عُمدتُها رؤيا الملِك وصاحبَي السجنِ لقوله تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} سواءٌ جعلناه معطوفاً على غاية مقدرة ينساق إليها الكلامُ ويستدعيها النظامُ كأنه قيل: ومثلَ ذلك التمكينِ مكنّا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوبَ أهلِها كافة مجالَ محبتِه ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأةِ العزيز ولنعلمه بعضَ تأويل الأحاديثِ وهو تأويلُ الرؤيا المذكورة فيؤدّي ذلك إلى الرياسة العُظمى، ولعل ترك المعطوفِ عليه للإشعار بعدم كونه مراداً بالذات أو جعلناه علةً لمعلل محذوفٍ كأنه قيل: ولهذه الحكمةِ البالغةِ فعلنا ذلك التمكينَ دون غيرها مما ليس له عاقبةٌ حميدة. هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمورُ إنما هو التمكينُ في جانب العزيز.
وأما التمكينُ في جانب الناسِ كافةً فتأديتُه إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتمالِه على ذلك التمكينِ فإذن الحق أن يكون ذلك إشارةً إلى مصدر قوله تعالى: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} على أن يكون هو عبارةً عن التمكين في قلب العزيزِ أو في منزله، وكونُ ذلك تمكيناً في الإرض بملابسة أنه عزيزٌ فيها لا عن تمكين آخرَ يُشبه به كما مر في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} من أن ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكورِ بعده لا إلى جعل آخرَ يُقصد تشبيهُ هذا الجعْل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها.
ومن ذلك قولُهم: مثلُك لا يبخل، وهكذا ينبغي أن يُحقق المقامُ، وأما التمكينُ بمعنى جعلِه مالكاً يتصرف في أرض مصرَ بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجِه المتفرِّعةِ كما عرفته لا من مباديه المؤديةِ إليه، فلا سبيل إلى جعله غايةً له ولم يُعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العملُ بموجب المناماتِ المنبّهة على الحوادث قبل وقوعِها عهداً مصححاً لجعله غايةً لولايته، وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عملٌ بموجب الرؤيا السابقةِ المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويلِ الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامضِ أسرارِ الكتبِ الإلهية ودقائقِ سننِ الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له أرضَ مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معانيَ كتب الله تعالى وأحكامَها ودقائقَ سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها، والتعليمُ الإجماليُّ لتلك المعاني والأحكام وإن كان غيرَ متأخرٍ عن تمكنه بذلك المعنى ألا أن تعليمَ كلِّ معنى شخصيَ يتفق في ضمن الحوادثِ والإرشادِ إلى الحق في كل نازلةٍ من النوازل متأخرٍ عن ذلك صالحٍ لأن يكون غاية له {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} لا يستعصى عليه أمرٌ ولا يمانعه شيءٌ بل إنما أمرُه لشيء إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكونُ فيدخل في ذلك شؤونُه المتعلقةُ بيوسف دخولاً أولياً، أو متولَ على أمر يوسفَ لا يكِله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غِبَّ مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمرَ كذلك فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك، وإن الأمرَ كلَّه لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائفَ صنعِه وخفايا فضله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8